مقارنۀ أدبیۀ بین «العقاد » و دیوانه و «میخائیل نعیمة » و غرباله

الدكتور قاسم مختاري[1]

مريم بخشنده[2]

الملخّص

تُبيُّن هذه المقالۀ وجهة نظر«العقاد» أحد النقاد فی مدرسۀ الدیوان، حول «میخائیل نعیمۀ» و اْثره «الغربال» الذي کتب العقاد مقدمتها. رغم أنهما یعتقدان بهدفٍ واحدٍ و هو الهجوم العنیف علی الأدب التقليدي و تحطيم الصورۀ التی کان یسیر شعر القدماء علیها؛ انهما يتّفقان فی الوحدة العضويّة؛ أما في قضیۀ اللّغۀ فنشاهد أنّ «میخائیل نعیمة» في مقالاته و خاصۀ في مقالۀ «نقیق الضفادع» یهاجم علی النقاد الملتزمین باللغۀ و قواعدها و أنه لایکترث و لایتقیّد باللّغۀ العربیّۀ الفصحی . من جانب آخر نشاهد أنّ «العقاد » یهتمّ باللّغۀ العربیۀ الفصیحۀ و بالعروض الخليلي و ینتقد في هذا المجال مقدمۀ کتاب «الغربال» لنُعيمة . يرجع سبب هذا الخلاف إلي أنّ « میخائیل نعیمة» ، أحد شعراء المهجر هاجرمن بلده إلی أمیرکا الشمالیۀ و أسّس مع أصدقائه مجله«الرابطۀ القلمیۀ» سنۀ1910 م وکان مستشاراً فیها؛ فلذلك تأثّر بالثقافۀ الغربیۀ و آدابها و لکنّ «العقاد » عاش في بیئۀ عربیۀ شرقیۀ لاتقبل الخروج أو الإنحراف عن قواعد اللغۀ.

الكلمات الرئيسه:

مقارنۀ أدبیۀ ، العقاد ، الديوان ، میخائیل نُعَیْمَة ، الغَرْبال

 

 

 

 

 

 ۱- الأستاذ المشارک بجامعة « أراك »

 

۲- ماجستير في اللغة العربية و آدابها

 

المقدمة

                 لاینکر أحد دور رائد الحداثۀ «عباس محمود العقاد » و الادیب اللبناني المعاصر «میخائیل نعیمۀ» في النقد الادبي الحدیث و المعاصر. وللدیوان و الغربال صدی کبیر فی الأوساط النقدیۀ و فی تجدید الأدب العربی المعاصر. يری العقاد أنّ النقد یقوم بالتعلیق علی القصائد فقط و أن الناقد لایُعَدُّ منتجاً إلا اذا کان نقده ابتکاراً للقواعد الجدیدۀ؛ بحيث يبني علیها فنّاً جدیداً وأنّ علۀ الإهتمام الکبیر بالنقد هي ضعف معرفة الأدباء و الکتّاب عن إنتاج غیرهم. «میخائیل نعیمۀ»هو قطبُ مدرسۀ أدبیۀ و هی «الرابطۀ القلمیۀ». تجاوب مع جماعۀ الدیوان و كانت نتیجۀ هذا التجاوب إنتاج کتابٍ سمّاه «الغربال » . دعا ميخائيل في هذا الکتاب إلی أدب جدید و هذا کان نابعاً من احتکاکه بالثقافۀ الغربیۀ. العقاد و نعیمه یعتقدان بالوحدۀ العضویۀ فی الشعر و لایقبلان وحدۀ البیت في أسلوب الشعر القدیم. إنّ العلاقۀ بین مدرسة الدیوان و الرابطۀ القلمیۀ کانت ایجابیۀ و العقاد لا یرید أن یثیر بینهما الصراع أو المناقشۀ ؛ لأنّ الوفاق بینهما عظیم، لکنّه لا یخاف من بیان رأیه و عدم اشتراکه فی قضیۀ اللّغۀ.  البحث الجدید الذی تعتني به هذه المقالۀ هي قضیۀ اللّغۀ و میخائیل نعیمۀ وإن كان قد اعتنق المسيحية، لكنّه لا يقبل الخلاف بينه وبين الاعتزاز بعروبته؛ رغم ذلك فإنّه لایقبل اللغۀ العربیۀ الفصیحۀ؛ لأنّه نشأ في  بیئۀ غربية و تأثّر بآدابها.

يؤكد ميخائيل أنّ دعوته إلي التجديد ونبذ التقليد ليست تنكّرا للتراث و قطع وشائج الصلة بين الأقدمين والمتجددين ولاشك في أنّ المهجريين ظلوا متمسكين بالاستمداد من التراث. لکنّ العقاد یهتمّ إهتماماً تامّاً باللّّغۀ الفصیحۀ و ینتقد میخائیل نعیمۀ بسبب آرائه.

 

الحیاۀ الأدبیۀ للعقاد

 عباس بن محمود بن مصطفی العقاد، أدیب مصري کبیر وُلد في أسوان. فطر علی حب الأدب فثقّف  نفسَه بالمطالعۀ و تردّد علی المجالس العلمیة و الأدبیة. لم ینل من علوم المدرسۀ إلا الشهادۀ الابتدائیۀ. اشتغل فی بعض الوظائف الحکومیۀ ثم عمل مدرساً و کاتباً صحفیاً فنشر عدۀ مقالات لفتت إلیه الأنظار. إنه مثقف جمع بين الثقافتين العربية الأصلية و الغربية المعاصرة، و خاصه إنه درس آراء الناقد الانكليزي المعروف«هازلت»الذي يعتبر امام المدرسة الانكليزية في النقد و أعجب كثيراً باسلوبه.

إتصل « بإبراهیم عبدالقادر المازني» و «عبدالرحمن شکري» و كوّنوا مدرسۀ «الدیوان » الأدبیۀ و التي همّها التجدید في الشعر و الأدب. بدأ انتاجه الشعري قبل الحرب العالمیۀ الأولی و ظهرت الطبعۀ الأولی من دیوانه في سنة 1916 م و الطبعۀ الثانیۀ سنة 1928. إمتاز العقاد بالتحلیل و غزارۀ الثقافۀ و خاصة في النقد المعاصر؛  فله عدۀُ دواوین في الشعر منها : «وحی الأربعین»، و«هدیۀ الکروان»، و «عابر السبیل» و غيرها. و من أشهر کتبه : «عبقریۀ محمد » ، «عبقریۀ عمر»، « عبقریۀ علی » و...(راجع: الجزائری، 1995 م، ص 181؛ مهّنا و خریس، 1990م، ص 140؛فوزی ، 1985م، ص 150).

نظراته النقدية فی الديوان

الديوان كتاب في عشرة اجزاء يشتمل علي مقالات نقدية موضوعها الأدب عامة و وجهته الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة(راجع :العقاد،1991م،ص515).

إن العقاد يشنّ حملة عنيفة علي احمد شوقي في كتابه الديوان و يري في شعره صيقل الالفاظ، اذ شعره ليس تعبيراً صادقاً عن النفس إزاء الحياة و إنّ قصيدته ليست بنيةً حيةً متماسكةً. كما ينكر في الشعر، الاحالة أي الاعتساف و الشطط و المبالغة التي تخالف الحقائق و الخروج بالفكر عن المعقول، و ما إلي ذلك مما يخرج الشعر عن حقيقته الجمالية (راجع:المصدر نفسه،ص515-633).

يرفض العقاد التفكك الذي يجعل القصيدة مبٌددة و متشققة لاتربطها وحدة معنوية صحيحة. «إنّه يقيم تجديده غالبا علي ما استقرّ في نفسه من فكرة القصيدة الغربية و وحدتها العضوية ويري أنّ القصيدة تؤلّف علي نهج جديد هو نهج الوحدة العضوية النامية»(ضيف،1419ﻫ،ص159). إنه في خطّته توجّه إلی نقد الصورۀ التي کانت یسیر عليها شعر«أحمد شوقی» و «حافظ ابراهیم» اللذین اعتقدا بالشعر التقلیدي؛ و کتاب «الدیوان » کان یمثّل مرحلۀ من مراحل التجاوب و الالتقاء بین حرکۀ التجدید في مصر وفي المهاجر.

هذا و نستطيع أن نلخّص آراءه فيما يلي:

اولها أن الشعر قيمة انسانية و ليس بقيمه لسانية؛ لأنه وُجِدَ عند كل قبيل و بين الناطقين بكل لسان؛ فاذا جادت القصيدة من الشعر فهي جيدة في كل لغة. و ثانيها أن القصيدة بنية حية ليست قطعاً متناثرة يجمعها اطارٌ واحد . . . و ثالثها أن الشعر تعبير و أن الشاعر الذي لايعبّر عن نفسه، صانع و ليس بذي سليقه انسانيةٍ، فاذا قرأتَ ديوان شعر و لم تعرفه منه و لم تتمثل لك شخصية صادقة لصاحبه فهو إلي التنسيق اقرب منه إلي التعبير(راجع:العقاد،1991م، ص515-633).

إن العقاد يعتقد بالتجديد ولكنه لايري التجدبد في اللجوء إلي تحطيم اللغة وقواعدها و اصولها الثابتة وهو بذلك يعتقد بأن الذين يحاربون الشعر القديم و يريدون تحريره ، يجب أًن لا يكون التحرير من الوزن و الافصاح واللوازم الموسيقية. إنه وقف بوجه الداعين إلي التحرر من كل المقاييس في الشعر و ثار علي الابتذال و العامية و السوقيه و كتب في مجلة الهلال في أواخر حياته: «ليس في وسع المتحررين أن يحاربوا الشعر القديم بتحريره كما يقولون من الوزن و القافية و اللوازم الموسيقية؛ لأن اوزان الشعر اصيلة عميقة القرار في طبيعة الشعب كما نري من اوزان الازجال و المواويل و تراتيل الفرح و النواح في كل بيئة من بيئات الحضر و الريف. . . بعض هؤلاء المتحررين يجهل أو يتجاهل معني العروض فيقول إنه يزن الشعر بالتفعيلة و هي كلمة لا فرق بينها و بين الوف الكلمات في الاوزان العروضية، اذ ليس في اللغة كلمة تتجرد من اوزان التفاعيل بين فعل و فاعل و فعولن و فاعلاتن و مستفعلن و مفاعيلن و غيرها من مركبات الفعل(ضيف، د،ت، ص393).

الحیاۀ الأدبیۀ لمیخائیل نعیمۀ

 هو أدیب لبنانّي معاصر، ظهرت مواهبه منذ طفولته. تلقّی علومه الأولی فی قریته ثم إلتحق بالمدرسۀ الروسیۀ فی فلسطین حیث أرسلته إلی روسیا لإتمام دراسته، ثم هاجر إلی الولایات المتحدۀ فدرس الحقوق و الآداب ثم إنتقل إلی نیویورک بدعوۀ «نسیب عریضة»، و أسس مع «جبران خلیل جبران » و غیره من أدباء المهجر جمعیۀ أدبیۀ عرفت باسم «الرابطۀ القلمیۀ» و هي أوّل مدرسۀ أدبیۀ منظمۀ تنزع إلی تکوین جماعۀ ذات طابع خاص فی التفکیرو التعبیر و التي تأسست  فی عام 1920 م. عُیِّنَ «نعیمۀ»

 مستشار«الرابطۀ القلمیۀ» و وجد فیها مجالاً خصباً للتفرغ الي نشاطه الثقافي والفکري (مهّنا و خریس، 1990م ، ص 237).

إنّ اغتراب نعیمة بسبب عن بلاده صغیراً و تأثره بالأدب الروسي إلی حد بعید، ثم هجرته إلی أمریکا ، جعلتْه متحرراً ميالاً إلی کل ما هو جدیدٌ، ناقداً للقدیم، ثائراً علی التقلید و المقلدین.

نستطيع القول بأنّ تأثّر نعيمه بالأدبين الروسي و الاميريكي، إضافة إلي اطلاعه علي فلسفه الشرق و المسيحية- كل ذلك كان عاملاً أساسياً في بلورة طبيعة التفكير الادبي لديه؛ و هو تفكير امتدّ علي مرحلتين، كما قال محمدعلوان:

«اهتم في الاولي بمشكلة الانسان العربي الاجتماعية منطلقاً من واقعه المختلف، ثائراً علي اوضاعه و مفاهيمه البالية، ناشداً له كل انواع التعبير و التجديد و الاصلاح. امّا المرحلة الثانية فقد اتسمت بنزعة روحانية صوفية مثالية اهتمّ فيها ببناء الانسان المطلق من الداخل، و اقتنع فيها بالنظام الكوني المتوحد؛ كما نادي بالانسان القاهر لشهواته و أهوائه التّواق إلي المعرفة القصوي و الحرية القصوي. ان هذه المرحلة هي التي خوّلته اعادة النظر في كل مفاهيمه الادبية و الفكرية و الحياتية حيث تخلّي في الاعوام الأخير من حياته عن الادب الواقعي ليلتزم جانب الادب الروحي»(محمدعلوان، 1986م ص193).

لقد ذاع صیت نعيمة لا في المهجر فقط، بل في الشرق العربي وبین ادبائه و شعرائه وخاصةً حینما أصدر کتابه القّیم «الغربال » باسطاً فیه مقاییسه الأدبیۀ و النقدیۀ داعيا إلی التحرر. من نتاجه: مسرحیات « الآباء و البنون » و «أیوب »؛ و روایات : «لقاء» ، و«کتاب مرداد »؛ و شعر «همس الجفون» ، و«نجوی الغروب»؛ و مقالات : «الغربال » ،و « زاد المعاد» وغير ذلك. (راجع: حمود، 2001م، ج2، ص 346؛ جمیل سراج، 1964م، ص 308) .

نظراته النقدية فی الغربال

 إنّ میخائیل نعیمۀ من روّاد التجدید في المهاجر. تجاوب مع جماعۀ الدیوان و انتج هذا التجاوب ثمرته عندما أخرج نعیمة کتابه «الغربال ». بعد صدور «الدیوان » بعامین  قد انتعشت حرکۀ التجدید في المهاجر و استفادت من زمیلتها في مصر و أنّ صدور الدیوان هو الذی دفع نعیمۀ لکتابۀ الغربال و نقد کبار الأدباء و الشعراء .

الغربال کتاب یتکوّن من مقالات نقدیۀ التی نشرها میخائیل فی الصحف و الکتب و یضمّ احدی و عشرین مقالۀ.

یقول میخائیل نعیمۀ عنه: «الغربلۀ لیست غربلۀ الناس بل غربلۀ ما یدوّنه قسم من الناس من افکار وشعور؛ و مهنۀ الناقد غربلۀ الآثار الأدبیۀ، لاغربلۀ أصحابها . فإن الناقد الذی لایمیّز بین شخصیۀ المنقود و بین آثاره لیس أهلاً  لأن یکون من حاملي الغربال (نعیمة، 1987م، ج3 ، ص347).

يهدف هذا الكتاب، الذي صدرت طبعته الاولي سنة 1923، إلي تأسيس تصور نقدي مغاير و الدعوة إلي ادب جديد. لهذا يري محمد مندور أن غاية هذا الكتاب «هي الهجوم العنيف علي الادب العربي التقليدي المتزمّت و علي التحجر اللغوي ثم علي العروض التقليدي» (مندور،2002م،ص29). نر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ی أًن ميخائيل نعيمة يعتقد أن الادب يجب أن يتحوّل و يتقدّم بتقدم المجتمع و الامور الاخری. و الادب يجب أًن بنهض كما ينهض المجتمع و يتطور، حتی يخرج من مستودعاته المُظلمة إلي النور. وأبي أن يتناول غذاءه الادبي من القدماء ومن أدبهم، بل علی الاديب أن يتناول الغذاء الذي طبخه بيده و بعبارة أخری، استقل في تفكيره وشعوره وأدبه .

يري ميخائيل نعيمه أن الادب الحقيقي هو«رسول» بين الكاتب و القارئ؛ و أن وظيفته تنحصر في تناول الانسان؛ هذا الحيوان المستحدث الذي هو أحقّ بالعناية من سواه و سبر أغوار النفس البشريّة؛ أي أنه تعبير عن الحياة النفسية و الاجتماعية من جميع نواحيها، و هذا التحديد للأدب كان نابعاً عن احتكاكه بالثقافة الغربية، يقول نعيمه: «إن اول ما أبحث عنه في كل ما يقع تحت نظري باسم الشعر هو نسمة الحياة و الذي أعنيه بـ «نسمة الحياة» ليس إلّا انعكاس بعض ما في داخلي من عوامل الوجود في الكلام المنظوم الذي أطالعه. فان عثرت فيه علي مثل تلك النسمة أيقنت أنه شعر» (نعيمه، 1987م، ج3، ص435).وعلی اساس ما قال نعيمة حول محور الادب ، نستنتجُ أنّ محور الادب ليس ألا النفس الانسانية.

أما فيما يتعلق باللغة فيعتقد أن القصد من الادب هو الافصاح عن عوامل الحياة كلها كما تنتابنا من افكار و عواطف و أن اللغة ليست سوي وسيلة من وسائل كثيرة اهتدت اليها البشرية للافصاح عن افكارها و عواطفها... فهي اولاً و اللغة ثانياً... و أن اللغة في أدقّ تراكيبها ليست سوي مستودع رموز نرمز بها إلي افكارنا و عواطفنا... و أن الشعراء و الكتاب هم واضعوا هذه الرموز و أنه اذا غيّر شاعر أو كاتب رمزاً من رموزكم المألوفة أو جاءكم برمز جديد فليس في ذلك ما يدعو إلي القلق و الخوف؛ لانكم اذا أجبتم الرمز الجديد فستحتفظون به رضي النحاة أم سخطوا و اذا أعرضتم عنه فسيتلاش‍ی من تلقائه (المصدر نفسه، ص417). فهو ثائر علی ما سمّي بلغة الشعراء والقاموس الشعري، داعياً إلي تحرير اللغة الشعرية من القوالب الجافة والاساليب القديمة ونادي بضرورة التعبير عن المضامين الجديدة بلغة قادرة عل‍ی التحليل و التركيب، فنری ميخائيل نعيمة يبالغ في جانب من الأمر ويترك جانباً آخر وهو يتناول جانب النفس والذات ولكنه ينسی أنّ هناك لغةً وبياناً وأسلوباً و طريقة ايراد كلام وهذه الأمور تدخل في الأدب والشعر ولها دورهام، كما للأمور النفسية أهمية بالغة.

أما بالنسبة إلي العروض الخليلي فيشنّ حملة عنيفة عليه قائلاً: «الزحافات و العلل» أوبئة تنزل باوزان الشعر العربي فتحرك ساكناً او تسكن متحركاً و تقضم حرفاً هنا و مقطعاً هناك. أمّا أننا في جهدنا وراء ناصية العروض قد أفلتت من يدنا ناصية الشعر و أننا في جهدنا وراء التمييز بين صحيح اوزان الشعر و فاسدها قد نسينا الفرق بين ما هو شعر و ما ليس شعراً، فما ذاك بالامر الخطيرفالمهم المهم أن نعرف اذا ما نظمنا بيتاً أننا لم نجز لأنفسنا ما لم يجزه الخليل، و أننا لم نهتك حرمة قاعدة و لم نخلّ بحرف من قاموس و لم نتجاوز حدّ تقليد شريف أو طقس مقدس (المصدر نفسه، ص420). فيری أنّ الشعر الصحيح هو شعر الحياة، لا شعر الزحافات والعلل، وليس العروضُ من ضروريات الشعر، رغم أنه يهتمّ بالأوزان ويلتزم القوافي في أشعاره.

أيضاً حمل میخائیل نعیمۀ فی الغربال علی أغراض الشعرالتقلیدیۀ من مدیح و غیر مدیح، کما حمل علی لغۀ هذا الشعر و ما یُسمّی بالجزالۀ و الرصانۀ و دعا إلی أن یکون الشعر تعبیراً عن الأحاسیس النفسیۀ و الانفعالات الذاتیۀ (راجع: ضیف، د. ت،ص 293).  فتمرّد علی ضيق المعاني المتداولة  ومحدودية إطارها، كما ثار علي عدم تعبير الشاعر عمّا يراه في الوجود و المجتمع من نقص وتناقص، ودعا إلي التعبير عن هذه الاشياء و ضرورتها و وَقََََفَ أمام إستخدام الشعر في بيان الموضوعات التاريخية .

وجهۀ نظر النقاد في العقاد و نعیمۀ

تعتقد الدکتورۀ زینب الفاتح: «أنّ حرکۀ التجدید عند أصحاب الدیوان إمتدّت إلی المهجر فأصدر نعیمۀ کتابه الغربال و هو أول دعوۀ للتجدید ارتفعت فی المهجر متأثرۀ بکتاب «الدیوان في النقد و الأدب » ، یتمّ فی عشرۀ أجزاء التي أصدره العقاد و المازنی و قد حیا نعیمۀ فی الغربال الذی أصدره بمقدمۀ قلم العقاد بظهور مدرسۀ التجدید المصریۀ،أي مدرسۀ «الدیوان ». یقول أیضاً «هنری ریاض » : « اِنّ مدرسۀ شعراء المهجر اولئک الذین نزحوا من البلاد العربیۀ إلی أمریکا تقابل و تماثل مدرسۀ الدیوان و یستدلّ علی ذلک بأسباب کثیرۀ، منها تبادل التأیید بین العقاد ، رائد مدرسۀ الدیوان و نعیمة ، أحد روّاد المدرسۀ المهجریۀ الذی وضع مقاییس جیّدۀ للشعر المهجری » (طالبی ، 1382ش ، ص 38).

 یقول  شوقی ضیف : « أما میخائیل نعیمۀ فقد وضع فی طریقۀ جماعته من اعضاء الرابطۀ القلمیۀ کتاباً سمّاه الغربال، حمل فیه علی أغراض الشعر التقلیدیۀ من مدیح و غیر مدیح، کما حمل علی لغۀ هذا الشعر و مایسمّی بالجزالۀ و الرصانۀ و دعا في قوۀ إلی أن یکون الشعر تعبیراً عن الأحاسیس النفسیۀ و الإنفعالات الذاتیۀ و أن یسعی الشاعر إلی تصویر الحق و الجمال» ( المصدر نفسه ، ص 30).

المقارنة النقدية بينهما

الغربال یشبه کتاب «الدیوان» للعقاد ؛ لأنهما ظهرا في وقتین بالغی التقارب، والکتابان یرمیان إلی هدفٍ واحد و هو الهجوم العنیف علی مدرسۀ الأدب التقلیدي فنشاهد أنهما قد أشادا بآثارهما فيثني العقاد علي الغربال قائلا:

 صفاءٌ في الذهن و استقامة في النقد، و غيرة علي الاصلاح و فهم لوظيفة الادب و قبس من الفلسفة و لذعة من التهكم- هذه خلال واضحة تطالعك من هذا«الغربال» الذي يطلّ القاريء من خلاله علي كثير من الطرائف البارعة و الحقائق القيّمة» (نعيمه، 1987م، ص341).

 و من جانب آخر يشيد نعيمة بالديوان ويقول:« الا بارك الله في مصر، فما كلّ ما تنثره ثرثرة  و لا كل ما تنظمه بهرجة. و قد كنت أحسبها وثنية تعبد زخرف الكلام و تؤله رصف القوافي. فكم زمرت لبهلوان و طبّلت لمشعوذ و طيبت لسكران. غير أني عرفت اليوم بالحس ما كنت أعرفه أمس بالرجاء» (المصدر نفسه،ص498).

انّ لهما نزعة تجديدية تخالف القديم غالبا. و في رأيهما أنّ الشاعر يجب أن يترك الرثّ و التقليد القديم تقليدا عشوائيا؛ و الشعر هو ما يشعر به، لا أن يصنعه من أقوال الآخرين و أفكارهم. إنهما يُبديان آراء جديدة في الوحدة العضويّة و قضية اللغة و العروض و محور الشعر في آرائهما.

 میخائیل نعیمۀ لایهتمّ بوحدۀ البیت ، بل یعتقد أنّ الوحدۀ العضویۀ فی الشعر، ألیق بالعنایۀ و أن الشعر القدیم لاتوجد فیه الوحدۀ العضویۀ ؛ لأنّ الشاعر تکون آفاق افکاره قصیرۀ و لذلک يستطرد الشاعر من موضوعٍ إلی موضوعٍ آخر حتّی یستطیع أن ینشد شعره.كما أن العقاد ينقد الشوقي و يعتقد أنّ قصيدته ليست بنية حية متماسكة (راجع:العقاد،1991م، ص584-595).

و يميل نعيمة اليه في هذا الموضوع قائلا: «لا ألوم العقاد اذا ما صوّب كلّ مدافعه مرة واحدة علي شوقي ليظهر لأتباع شوقي ما ليس خافياً عن كل من عنده قليل من الذوق في الادب و الفن و ما اذا خفي اليوم فلن يخفي غداً. فمن ذا من الذين تفتحت بصائرهم الادبية يطالع منظومات شوقي و لا يري ما يراه العقاد من التفكك و الاحالة و التقليد و الولوع بالاعراض دون الجوهر؟ و إن كان بين هؤلاء من يخامره شك في صحة هذا التعليل فما كان عليه الّا أن يطالع«شوقي في الميزان»»(نعيمة، 1987م، ص504). وعلي اساس هذه الميزة، تكونُ القصيدةُُ لديهما عملاً فنياً تاماً يكمل فيه تصوير خاطرٍ أو خواطرَ متجانسة، كما يكمل التمثالُ بأعضائه، والصور بأجزائها واللحن الموسيقی بأنغامه، بحيث اذا اختلف الوضع، أو تغيرت النسبة،أخلّ ذلك بوحدة العمل الفني؛ فإن القصيدة عندهم كالجسم الحيّ يقوم كل عضو من أعضائه بوظيفته الخاصة ولا يمكن الاستغناء عنه أبداً.

الشعر في رأيهما يدور حول النفس الانسانية، إلاّ أن العقاد عند دعوته إلی الشعر الذاتي، لايحطم كل شئٍ في الشعر كاللغة و الاسلوب والبيان وما إلي ذلك، خلافاً لما فعل نعيمة؛ يقول العقاد في قضية اللغة: «فرأيي أنّ الكتابة الادبية فن و الفن لا يكتفي فيه بالافادة و لا يغني فيه مجرد الافهام.و عندي أنّ الاديب في حل من الخطأ في بعض الاحيان، و لكن علي شرط أن يكون الخطأ خيراً و أجمل و أوفي من الصواب، و أن مجاراة التطور فريضة و فضيلة و لكن يجب أن نذكر أن اللغة لم تخلق اليوم فنخلق قواعدها و أصولها في طريقنا و أن التطور انّما يكون في اللغات التي ليس لها ماض و قواعد واصول. و متي وجدت القواعد و الاصول فلماذا نهملها او نخالفها الّا لضرورة قاسرة لا مناص منها؟

 

اما كلمتي أنا ففي خلاف صغير بيني و بين المؤلف(نعيمة)، لا أعرضه للمناقشة الّا لأن الاتفاق بيننا في غير هذا الموضع عظيم. و زبدة هذا الخلاف أن المؤلف يحسب العناية باللفظ فضولاً و يري أن الكاتب او الشاعر في حلّ من الخطأ مادام الغرض الذي يرمي إليه مفهوماً و اللفظ الذي يؤدّي به معناه مفيداً. ويعنّ له أن التطور يقضي باطلاق التصرف للأُدباء  في اشتقاق المفردات و ارتجالها. و قد تكون هذه الآراء صحيحة في نظر فريق من الزملاء الفضلاء، و لكنها في نظري تحتاج إلي تنقيح و تعديل و يؤخذ فيها بمذهبٍ وسط بين التحريم و التحليل»(المصدر نفسه، ص345).

كما رأينا أنّ نعيمة ينقد الأوزان الخليلية نقدا لاذعا، لكنّ العقاد و إن دعا إلي التجديد في الاوزان و التنوع في القوافي إلا أنه لم يخرج علي الذوق العربية الفصيحة، بل وازن بدقةٍ و مهارة بين الجديد في الموضوعات و المعاني و الاغراض و بين الصياغة العربية و لم يتخل كلياً عن الوزن و القافية كما فعل اصحاب الشعر الحرّ فيما بعد.

مخالفة العقاد هذه مع نعيمة في مجال اللغة والعروض والاسلوب لاتعني وقوف فكرة العقاد أمام فكرة نعيمة، بل كتابة الغربال في أمريكا الشمالية ومقدمتها في مصر تحت سماء القارّة الآفريقية تدلّ علي قرابة أديبة و فكرية كبيرة بينهما، إلا أنّ العقاد لايغلو غلوّ نعيمة في قضية التجديد و يقول:

هبّوا كتّابنا و شعراءنا العرب في الاقطار الامريكية قد ذهبوا بالحرية اللفظية إلي أبعد مداها فهل تنسي لذلك مآثر هذه الحرية و محاسنها و نجعل الجهل الذي لا مسوّغ له فنغلق أبوابنا كلها دونها؟ أليست هي التي فكّت عن قرائحهم قيود التقليد و أخرجتهم من مآذق الاوزان المعهودة و القافية العتيقة و أفهمتهم حقيقة الادب فافتنوا في الشعر و ابتدعوا في اوزان النظم و ساروا بالادب علي نهج الحياة و التقدم؟ أليس لهذة الحرية فضلها المحمود و اثرها المرجوّ في آدابنا العربية و نتيجتها التي تزداد مع الايام انتشاراً و نفعاً؟ بلي ذلك حق لا ريب فيه. و ان بين أيدينا الان لهدية من انفس هدايا تلك الحرية المباركة و روحاً من الحياة تهبّ علي مقاييسنا الآلية البالية(المصدر نفسه، ص364).

النتیجۀ

يُلاحظ أن الناقدينِ الأديبينِ، متأثرينِ بالغرب والظروف السائدة أصدرا كتابين ينطوي كلٌّ منهما علی آراء و مقاييس هامة نقدية أحدثت ضجة كبيرة في ساحة الأدب؛ فأصبح الجو السائد علي المجتمع يسير إلي حركة التجديد في الشعر. فإن كتابة الغربال في أمريكا الشمالية ومقدمتها في مصر تدل علی قرابة أدبية و فكرية بينهما، مما حدا كلاً منهما أن يُشيد بالآخر.  كما  لُوحظ في أثناء المقال، أنهما يوكّدان علی الوحدة العضوية والشعر الذاتي، مهاجمينِ الشعراء الملتزمين بوحدة البيت. و لايعني ذلك بالضرورة أنهما يشتركان في آرائهما مئه بالمئه بل نری نعيمة، بما أنه نشأ في بيئة غربية، يتخلي عن الجانب البياني والعروضي واللغوي، ولكنّ العقاد في آرائه اكثرُ عقلانية من زميله المهجري؛  لحضوره في بيئة شرقية عربية وهي ما جعلته مأنوساً بالأدب العربي؛ هذا و أنّ نعيمة، رغمَ غلوّه، فتح آفاقاً جديدة أمام النّقاد العرب المعاصرين .

 

 

 

 

 

 

المصادر

1- الجزائري، سعید، النقد بین العقاد و عبود  ، منشورات اتحاد الکتّاب العرب، بیروت، الطبعة الأولي،1995م.

2- جمیل سرّاج ،نادرۀ، شعراء الرابطۀ القلمیۀ ، دارالمعارف بمصر، القاهره ، الطبعة الأولي ، 1964م.

3- حمود، محمد، الأدباء و الشعراء العرب، المجلد الثاني، دارالفکر اللبناني، بیروت،الطبعة الأولي، 2001م.

4- ضیف، شوقي، فصول فی الشعر و نقده  ، دارالمعارف، بیروت، الطبعة الثالثه ،د. ت.

5-ضيف،شوقي، في النقد الادبي،دارالمعارف،بيروت، الطبعة التاسعة، 1419ﻫ.

6- طالبی ،محمد علی، اثر نقد العقاد فی الأدب العربي المعاصر، دون ناشر، الطبعۀ الأولی، 1382ش.

7- عشماوي، محمد زکي، دراسات فی النقد الأدبي المعاصر، دارالنهضۀ، بيروت ، الطبعة الأولي ، 1986م.

8-العقاد، عباس محمود، المجموعة الكاملة، الأدب والنقد، المجلد الرابع والعشرون، دارالكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثالثة، 1991م.

9- فوزي، احمد، رجال الفکر و القانون ، دارالانتصار، بغداد ،الطبعة الأولي ، 1985م.

10- محمد علوان ، الحبیب، میخائیل نعیمۀ حیاته و شعره، دار بوسلامۀ ، تونس ،الطبعۀ الأولی ، 1986م.

11- مندور، محمد، النقد و النقاد المعاصرون، دارالنهضۀ، مصر، الطبعۀ الثانیۀ، 2002 م.

12- مهّنا ، عبدالله علی و خریس ، علي نعیم، مشاهیرالشعراء و الأدباء، دارالکتب العلمیۀ، بیروت، الطبعۀ الأولی، 1990  م.

13-نعيمة، میخائیل، المجموعۀ الکاملۀ، المجلد الثالث، دارالعلم للملایین، بیروت، الطبعۀ الأولی، 1987م.